الصحة العامة

الإيثار: جوهر الإنسانية وروح التضحية

الإيثار هو ذلك الخُلق النبيل الذي يرقى بالإنسان فوق حاجاته الذاتية، ليرسم بكل عملٍ إيثاري لوحةً إنسانية تزهو بالتضحية والعطاء. إنه الاختيار الواعي لتقديم مصلحة الآخرين، حتى لو كان الثمن حرمان الذات من منفعة أو راحة. فما هو الإيثار؟ وما سرّ أهميته في بناء المجتمعات؟ وكيف يمكننا ترسيخه كقيمةٍ يومية؟

الإيثار: التعريف والتمييز

يُعرَّف الإيثار بأنه “تقديم الخير للغير على حساب المصلحة الشخصية”، دون انتظار مقابل مادي أو معنوي. وهو يختلف عن التضحية التي قد تكون ظرفية أو مؤقتة، فالإيثار سلوكٌ متجذر في النفس، ينبع من إيمان عميق بقيمة العطاء. كما أنه ليس مجرد فعل خير عابر، بل قرار أخلاقي يُبنى على التعاطف والتفكير في احتياجات الآخرين قبل الذات.

مقالات ذات صلة

الإيثار في الميزان الاجتماعي

المجتمع الذي ينتشر فيه الإيثار يُصبح كالجسد الواحد، حيث يتكاتف أفراده في الأزمات، ويتحلون بالمسؤولية الجماعية. فالإيثار يخلق شبكةً من الثقة والتعاون، تُقلل من الفوارق الطبقية، وتُعزز التماسك الاجتماعي. تخيل معي مجتمعًا يبادر أفراده بالتبرع بالدم لمن يحتاجه، أو يُشاركون مواردهم مع المحتاجين في الأزمات، أو يُفضلون إنهاء مشكلة جارهم قبل مشاغلهم الخاصة! إنه مجتمعٌ قادر على مواجهة التحديات بأملٍ وإرادة.

نماذج خالدة في الإيثار

  • قصة إيثار الأنصار في المدينة المنورة: حين استقبل المهاجرين بإيثارٍ نادر، آثروهم بالمسكن والمال، حتى قال الله تعالى فيهم: “وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ” (الحشر: 9).
  • قصة الصحابي أبي طلحة وزوجته: عندما سمعا آيةً تحث على الإنفاق، قررا التبرع بأثمن ما يملكان (بستانًا) في سبيل الله، ليكون نموذجًا للإيثار المادي.
  • إيثار الأمهات عبر التاريخ: اللاتي يقدمن طعامهن لأطفالهن في المجاعات، رغم الجوع، وهي صورةٌ يومية للإيثار تُختزل في حنان الأمومة.

الإيثار وصحة النفس

لا يقتصر أثر الإيثار على المجتمع، بل يمتد ليشمل الفرد نفسه. فبحسب دراسات علم النفس الإيجابي، يُحفز العطاء إفراز هرمونات السعادة (مثل الدوبامين والسيروتونين)، ويُقلل من التوتر، ويعزز الشعور بالرضا. كما أن الإيثار يُذكِّر الإنسان بأن حياته ليست مقتصرة على ذاته، فيتخطى الأنانية ويجد معنىً أعمق لوجوده.

الإيثار المتزن: بين العطاء وحفظ الذات

لكن الإيثار يحتاج إلى حكمةٍ توازن بين العطاء وحقوق الذات. فالإفراط في إيثار الآخرين قد يؤدي إلى إهمال الفرد لصحته أو مسؤولياته، أو استغلاله من قبل الأنانيين. لذا، لا بد أن يكون الإيثار واعيًا، يراعي الأولويات ويضع حدودًا تحفظ كرامة المعطي والآخذ معًا.

الخاتمة: لنُعيد تعريف “الأنا”

في عالمٍ يزداد تركيزًا على الفردية، يأتي الإيثار كتمرين يومي لنُوسع دائرة “الأنا” لتشمل الآخر. فهو ليس فضيلةً استثنائية، بل يمكن ممارسته بخطوات بسيطة: مساعدة محتاج، إفساح المجال لشخصٍ في الزحام، أو حتى كلمة طمأنة في وقت ضيق. عندما نُؤثر غيرنا، نزرع بذرةً من الخير تعود علينا وعلى المجتمع بالازدهار. كما قال الشاعر:

وأحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock