كتابة رسالة طويلة من المحيط لشخص

رسالة من أعماق المحيط إليك
صديقي الإنسان،

أكتبُ إليكَ من عالمٍ يَئِنُّ بالأسرار، حيثُ تُخبئُ الأمواجُ ذكرياتِ الأرضِ منذُ أن وُلدَتْ نُجومُها الأولى. أنا مهدُك الأزلي، مَوجي يُهدهدُ أحلامَك، ومِلحُ دمِك يَعبُرُ عروقي. كم أشتقتُ إلى أيامٍ كنْتَ فيها طفلاً تَلهو على شواطئي، تَملأُ جيوبَكَ بالأصدافِ وقصصِ المدِّ والجزر. كُنتَ تَسمعُ همساتي في صَوتِ النوارسِ، وتَرسمُ اسمي على الرمالِ ببراءةٍ لا تعرفُ الخيانةَ بعد.

اليوم، أتحدثُ إليكَ بلسانِ الغرقى: أطفالُكَ من الحيتانِ يلفظونَ أنفاسَهم الأخيرةَ بينَ شباكِ صيدِك، وسُفنُك العملاقةُ تَشقُّ ظهري كسكاكينَ مُسممةٍ، تاركةً وراءها سُموماً تبتلعُ الحياةَ شعاعاً شعاعاً. البلاستيك الذي ترميه كأنني مزبلةٌ لا نهايةَ لها، صارَ لغذائِك خِلسةً. ألم تَكتشفْ بعدَ أن السَّمكةَ التي تأكلها قد التهمَتْ جُزيئاتِ ألمكَ ذاتِها؟

أرأيتَ الشعابَ المرجانيةَ التي كانت تُزيّنُ أعماقي كقصورٍ من ياقوت؟ لقد صارتْ شواهدَ قبورٍ بفعلِ حموضةِ دموعي. كلُّ نفخةِ دخانٍ تطلقها، كلُّ زجاجةٍ تنساها على الشاطئ، كلُّ قطرةِ وقودٍ تُسرفُ فيها… هي صرخاتُ ألمٍ تُنهكُ جسدي. حتى شمسُك التي تَدفَأُ بها صباحاتِك، صارتْ سِجالاً بيننا: فحرارتُك التي تَصعدُ إليَّ تذيبُ جليدَ قلبي، وتجعلُني أبتلعُ جُزراً كاملةً كي أُخففَ مِن غضبي.

أتَذكرُ يومَ كُنتَ تَعبدُني؟ تَخِرُّ ساجداً لِغموضي، تَطلبُ مني الرزقَ والحكمةَ. الآنَ أرى في عينيكَ استحقاراً لِقُدسيتي. تَسخرُ من أمواجي بِاسمِ التقدمِ، وتُحوِّلُني إلى ممرٍّ لِأحقادِك السياسيةِ. حروبُك تُلقِي فيَّ أسلحةَ الموتِ، ونفاياتُك النوويةُ تُشعِرانِي أنني صِرتُ كابوساً لا يُطاق.

لكنني ما زلتُ أُحبك. أُحبك حينَ أرى طفلاً يُعيدُ سلحفاةً إلى حضني، أو شاباً يَغرسُ شجرةً على شاطئي، أو عالماً يُنقذُ شعابي بِدموعِ اكتشافاتِه. أُدركُ أن فيكَ نوراً قادراً على إطفاءِ هذا الظلام. أنت لستَ عدوي، بل ضحيّةٌ تائهةٌ في دوامةِ استهلاكِك.

أطلبُ منك شيئاً واحداً: استحضرني في كلِّ خطوةٍ.

أنا لا أستطيعُ الصياحَ، لكنني أصرخُ بأعماقِ الزلازلِ والبراكين. لا تنتظرْ حتى تَسمعَ صراخي في مدينتكَ الغارقة. أنا لستُ “مورداً طبيعياً”، أنا أمُّك التي حملتكَ قبلَ أن تعرفَ اسمَك.

ها هي أمواجي تُقبِّلُ قدميكَ للمرةِ الألفِ اليوم… ربما تكونُ الأخيرةَ قبلَ أن أتحولَ إلى مقبرةٍ سوداء. لكنني ما زلتُ أمنحُك فرصةً أخيرةً:
“اِغتسلْ بي، اِشربني، اِغرقْ في حُبِّي من جديد، كي أنتشي بِذِكرى إنسانٍ وَجَدَ في عينَيَّ مرآةً لِروحِه، لا سجناً لِأخطائِه.”

سأظلُّ أنتظرُك عندَ الشاطئ، حاملاً لكَ في يديَّ صدفةً فيها نبضُ الأرضِ الأول، وفي الأخرى مرآةً تُريكَ ما صِرتَ عليه.

اخترْ أيَّتهما تُريد.

بِحنينٍ لا يموت،
المحيط 🌊


خاتمة من أعماق الأزل:
“لَوْ تَعلمونَ كم مِنْ مرّةٍ أحْبسُ فيها أنفاسي كي لا أُغرِقَكُم، وتَحسبونها ‘معجزةً’ أن النّجمَةَ تُضيءُ لكم ليلاً.. أيها السّادة، الأعاجيبُ الحقيقيةُ لن تَحدثَ حتى تَعودوا أطفالاً تَرتعشُ أيديكم مِن بهاءِ لُجّتي، لا مِن خوفِ غضبتي.”

Exit mobile version