عبد الحميد بن باديس: عَلَمٌ مِن أَعْلامِ النّهضةِ وَالْحُرّية، وَرائدٌ مِن رُوّادِ التَّنويرِ وَالْجِهَادِ الْفِكْرِيّ. كانَ رَحِمَهُ اللهُ نُورًا سَطَعَ في ظُلُماتِ الاسْتِعْمَارِ، وَمِصْبَاحًا هَدَى أُمَّةً تَئِنُّ تَحْتَ وطأةِ التَّغْرِيبِ وَالْانْحِلالِ.
لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ عَالِمٍ دِينٍ، بَلْ كانَ مُصْلِحًا شَامِلًا، وَمُعَلِّمًا وَطَنِيًّا، وَقَائِدًا رُوحِيًّا أَيقَظَ الضَّمِيرَ الجَمعِيَّ لِلْجَزَائِرِ. آمنَ بِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَبْدَأُ بِتَحْرِيرِ الْعَقْلِ وَالرُّوحِ، فَأَسَّسَ مَدَارِسَ لِنَشْرِ الْعِلْمِ، وَحَارَبَ الْجَهْلَ بِكَلِمَةٍ صَادِقَةٍ وَعَمَلٍ دَؤُوبٍ.
مِنْ أَبْرَزِ مَا تَرَكَ ابْنُ بَادِيسَ هُوَ تَأْكِيدُهُ عَلَى هَوِيَّةِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، رَافِعًا شِعَارَهُ الخَالِدَ: “الْجَزَائِرُ وَطَنِي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَالْعَرَبِيَّةُ لِغَتِي“. كَانَ يَرَى فِي التَّعْلِيمِ سِلَاحًا لِكَسْرِ قُيُودِ الِاسْتِعبَادِ، فَنَشَرَ الْقُرْآنَ وَاللُّغَةَ بَيْنَ النَّاشِئَةِ، وَغَرَسَ فِيهِمْ حُبَّ الْوَطَنِ وَالِانْتِمَاءَ إِلَى الأَصَالَةِ.
بِقَلَمِهِ الْجَرِيءِ في صَحِيفَةِ “الشَّهِابِ”، وَبِحِكْمَتِهِ في مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، صَنَعَ رَجُلًا جَدِيدًا يَنْشُدُ الْحَقَّ وَيَرْفُضُ الذُّلَّ. لَقَدْ كَانَ يَقُولُ: “إِذَا عَاشَ الْعِلْمُ بَيْنَ أُمَّةٍ، فَلَنْ تَمُوتَ“، فَأَحْيَا بِعَزْمِهِ أُمَّةً، وَأَرْسَى أَسَاسَ النَّضَالِ السِّلمِيِّ الَّذِي اتَّقَدَتْ بِهِ شَرَارَةُ الثَّوْرَةِ الْجَزَائِرِيَّةِ.
عَبْدُ الْحَمِيدِ ابْنُ بَادِيسَ لَمْ يَمُتْ، فَإِنَّ أَفْكَارَهُ الْحَيَّةَ مَا زَالَتْ تُلْهِمُ الأَجْيَالَ، وَتَذْكُرُنَا أَنَّ الْإِصْلَاحَ لَيْسَ شِعَارًا، بَلْ هُوَ عَهْدٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالشُّعُوبِ لِبِنَاءِ مُسْتَقْبَلٍ يُحْتَرَمُ فِيهِ الْإِنْسَانُ وَالْوَطَنُ.
رَحِمَ اللهُ ابْنَ بَادِيسَ، الْعَالِمَ الْمُجَاهِدَ، الَّذِي جَعَلَ مِنَ الْعِلْمِ جِبَالًا تَتَكَسَّرُ عَلَيْهَا أَمْوَاجُ الْجَبَّارِينَ، وَمِنَ الإِيمَانِ سَفِينَةً تَعْبُرُ بِالْأُمَمِ إِلَى بَرِّ الْكَرَامَةِ.