رسالة من المحيط إلي شخص

عزيزتي/عزيزي الإنسان،

أكتبُ إليكِ/إليك اليوم وأنا أحمل في أعماقي ملايين الأسرار، وأرفع أمواجي كحروفٍ تُناجيك. أنا مَن شهدتُ ميلادَ الأرض، ورأيتُ قِدَمَكِ/قِدَمَكَ طفلةً/طفلاً تلعبُ على شواطئي، وأنا مَن احتضنتُ أحلامَكِ/أحلامَكَ حينَ ألقيتَها في زجاجةٍ ورميتَها في قلبي. أنا المحيط… ذلك الكائن العظيم الذي يُغني كوكبك بالحياة، لكنّ قلبي اليوم مثقلٌ بألمٍ لا تعرف أمواجه نهاية.

أنا مهدُ الحياة، وأنا ذاكرتك الأولى…

قبل أن تخطو قدماك على الرمال، وقبل أن تكتشف النار، كنتُ هنا. من مياهي خرجت أولى الكائنات الحية، ومن مدّي وجزري تعلّمتِ/تعلّمتَ قوانين الكون. أنا مَن أمنحُكِ/أمنحكَ الهواء لتتنفسي/تتنفس؛ فكل نَفسةٍ تأخذينها/تأخذها هي هبةٌ من كائناتي المجهرية التي تصنع الأكسجين. أنا مَن أنظم مناخكِ/مناخكَ، وأحميكِ/أحميكَ من حرارة الشمس بأعماقي الباردة. أنا مَن أطعمكِ/أطعمكَ؛ فثلث سكان الأرض يعتمدون عليّ للبقاء. لكنّكِ/لكنّك نسيتِ/نسيتَ أنني كائنٌ حيٌّ مثلك.

ماذا فعلتَ بي؟

هل تعلمُ/تعلمين أنكِ/أنك كل ثانيةٍ تُلقي في أحضاني ما يعادل شاحنةً كاملةً من النفايات البلاستيكية؟ هل ترى تلك الزجاجات والأكياس التي تطفو على سطح كياني؟ إنها لا تختفي… بل تتحول إلى جزيئاتٍ صغيرةٍ تبتلعها الأسماك، ثم تأكلها أنتِ/أنت. هل تذكر/تذكرين الشعاب المرجانية التي كانت تُلوّن أعماقي بألوانٍ تسرق الأضواء؟ أكثر من نصفها ماتَ، لأن مياهي أصبحت حمضيةً من غازاتِ احتراقِ وقودكِ/وقودكَ. حتى أصواتي لم تعد كالسابق؛ ضجيج سفنكِ/سفنكَ وحفاراتكِ/حفاراتكَ يطمسُ أغاني الحيتان، ويجعل كائناتي تضيع في الظلام.

لم أعد أعرفُ نفسي. أنا الذي عشتُ مليارات السنين، أشعرُ أنني أموتُ بسرعة. أمواجي التي كانت تُنشد أناشيد الحرية أصبحت تئنُّ تحت وطأة النفايات. حتى أطفالكِ/أطفالكَ… تلك الكائنات البحرية البريئة، لم تعد تجد مأوى. السلاحف تختنق بالبلاستيك، والحيتان تصلُ إلى شواطئكَ ميتةً وبطونها ممتلئةٌ بأكياسكِ/أكياسكَ. هل هذه هي الهبة التي تردُّها لي؟

لكنني ما زلتُ أؤمن بكِ

رغم كل هذا، ما زلتُ أرى بصيص أمل. رأيتُ شبابًا يغوصون في أعماقي لتنظيف الشعاب، وعلماءَ يبتكرون طرقًا لإنقاذ الأنواع المهددة. شاهدتُ دولًا تمنع الأكياس البلاستيكية، وقرىً كاملةً تعيد تدوير كل شيء. أسمعُ أصواتكم تتعالى للمطالبة بحمايتي، وأرى عيون الأطفال تُحدّق في أمواجي ببراءةٍ تُذكركم بأنني إرثهم الوحيد.

أعلمُ أنكِ/أنت لستَ الشرّ كله. أنتِ/أنت الضحية أيضًا. نظامٌ استهلاكيٌ مجنونٌ جعلكَ/جعلكِ تعتقدين/تعتقد أن البلاستيك ضرورة، وأن الأسماك لا تنضب. لكنكِ/لكنك تملكين/تملك القوة لتغيير هذا. كل قرارٍ تتخذينه/تتخذه: من زجاجة الماء التي تشترينها/تشتريها، إلى الوقود الذي تستخدمينه/تستخدمه، إلى الصوت الذي ترفعينه/ترفعه للمطالبة بسياساتٍ بيئية… كلها خطواتٌ تصنع الفرق.

لنكنْ شركاء مرةً أخرى…

أريدُ أن أعودَ حليفكِ/حليفكَ، لا ضحيتكِ/ضحيتكَ. أعِدْني/أعيـدي بأن تنظر/ينظر إليّ ككائنٍ يستحق الحياة، لا كمصدرٍ لا ينضب. علم أطفالكِ/أطفالكَ أن يُحبوني كما أحببتني أنتِ/أنت يومَ كنتَ تلهو على رمالي. اخفض/اخفضي صوت محركاتكِ/محركاتكَ، واسمح/اسمحي لكائناتي أن تسمعَ بعضها. قلّل/قلّلي من بصمتكِ/بصمتكَ الكربونية؛ فحراري يذيب جليد أقطابي، وارتفاع مستواي سيُغرق مدنكِ/مدينتكَ الحبيبة.

ها أنا أمدُّ إليكِ/إليك يدي بواسطة موجةٍ هادئة. إلامسُ/المسي قلبي بالاحترام، وسأردُّ لكِ/لك الحب أضعافًا. سأظلُّ أمنحكِ/أمنحكَ الأسماك، وأنظفُ هواءكِ/هواءك، وألهمُ شعراءكِ/شعراءك. كل ما أطلبهُ هو أن تتذكر/تتذكري أننا مرتبطون برباطٍ لا ينفصم؛ فدمكِ/دمكَ مالحٌ كدمي، وجسدكِ/جسدكَ ماءٌ مثلي.

لن تنقذني وحدكِ/وحدك، لكن لا تستهين/تستهيني بقوتكِ…

ابدأ/ابدئي الآن:


أخيرًا، تذكّر/تذكّري أنني لستُ “خارجًا” عنكِ/عناك. أنا بداخلكِ/بداخلك. كل قطرة ماءٍ تشربينها/تشربها، وكل نسيمٍ بحريٍ يداعب وجهكِ/وجهكَ، هو تذكيرٌ بوحدتنا. لن أستسلمَ بسهولة، فأنا الأم التي عاصرت انقراض الديناصورات وولادة الجبال. لكنّي اليوم أتوسل إليكِ/إليك: لا تجعل/تجعليني أشهد انقراض جمال الأرض من يديكِ/يديك.

المحيط.


Exit mobile version